"الفينيقيين .. من الخليج إلى البحر المتوسط"
على الخليج العربي شرق الجزيرة العربية وقبل أكثر من 7.000 سنه أي 5.000 سنه قبل الميلاد، نشأت حضارة تعتبر هي إمتداداً للحضارات السومرية والآكادية والبابلية والكلدانية والآشورية المتعاقبة في بلاد الرافدين. وكانت هذه الحضارة لبني كنعان من سام بن نوح.
وقبل 4.000 سنه أي قبل الميلاد ب2.000 عام نزحت هذه الشعوب إلى البحر الأبيض المتوسط. وهناك أُطلِقَ على هذا الشعب مسمى (الفينيقيين). اطلق هذا الأسم على هذا الشعب اليونانيون. وذلك نسبةً للون أرجواني يستخرجونه من رخويات وأصداف في البحر الابيض المتوسط يصبغون به الأقمشة لبيعها في عموم حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث اشتهرت به تجارتهم.
القصة من البداية تبدأ قبل 8.000 سنه، عندما كانت شبه الجزيرة العربية جنة الله في الأرض، سهول خضراء وجبال مغطاة بالأشجار والنباتات الخضراء وأهوار غنية مخضرة. وكان إلى الشرق من جزيرة العرب وادٍ عظيم خصيب تصب فيه أغلب الأنهار القادمة من الشمال. وحتى أن نهري دجلة و الفرات كانا يعبران هذا الوادي ليصبا في بحرالعرب جنوباً. اليوم وعبر آلاف الأعوام طغت مياه البحار لتغمر هذا الوادي الخصيب ويتشكل اليوم ما يعرف لدينا بالخليج العربي الذي يمتد من البصرة شمالاً حتى بحر العرب جنوباً.
ولكن رحلة تصحر جزيرة العرب بدأت خلال ال 8.000 عاماً الماضية. وخلال هذا التحول بدأت الشعوب بالتأقلم من التغييرات التي تطرأ، حيث تشكلت الجزر وبدأ التعامل مع البحار وتعلموا خلالها فنون ركوب البحر واستخراج كنوزه. وبعد أن اشتد التصحر في المنطقة وفي الألف الثانية قبل الميلاد أي قبل 4000 سنه، بدأ النزوح لشرق البحر الأبيض المتوسط، ونقل هذا الشعب حضارته وإرثه الثقافي من طرق الزراعة وفنون ركوب البحر والخط المسماري والنقوش واساليب العبادات إلى المنطقة. كما أن الآلهة عشتار لديهم هي الشخصية الأهم في المجمع الخاص بالعبادة، وهي قبل ذلك كانت متواجدة في ساحل الخليج قبل الميلاد ب 5.000 ق.م في جزيرة تاروت والتي تقع في المملكة العربية السعودية حالياً مقابل جزيرة البحرين، والتي اشتق اسمها من الآلهة (عشتاروت) وما زالت الجزيرة بهذا المسمى (تاروت) ، وتم استخراج آثار تدل على ذلك، وموجودة في المتحف الإقليمي بالمملكة العربية السعودية.
كما نقل هذا الشعب معه اسماء مدنهم وجزرهم من ساحل الخليج العربي إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، ومنها:
(عراد) البحرين ونفس الاسم في فلسطين.
(صور) في عمان ونفس الاسم في لبنان
(جبيل) في السعودية ونفس الاسم في لبنان
وغيرها من المدن التي تتطابق .. مع العلم بأن الآثار الموجودة في المنطقتين يتبين بأنها لنفس الشعب وتتبع نفس الحضارة مع أقدمية لحضارة دلمون في البحرين والتي نشأت أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد.
ومنها أيضاً ما وجِد في منطقة (ثاج) شرق المملكة العربية السعودية. حيث أن حضارتهم والتي تنسب للكلدانيين وآلهتهم وطرق التعبد متطابقة في الفينيقيين في شرق البحر المتوسط كذلك. ويمكن الربط بسهولة بين الحضارتين مع أقدمية لحضارة بلاد الرافدين وجنوبه.
هذه النظرية التي تقدم بها بعض العلماء القدامى مثل سترابون المؤرخ والجغرافي اليوناني الذي اعتمد على المعلومات التي نقلها اندروستن من ثاسوس المستكشف والضابط في جيش الإسكندر الأكبر، ليقول أن اصل الفينيقيين يعود الى بلاد الخليج. ومن جهته، كتب جستن، المؤرخ الروماني، بأن الفينيقيين أُجْبِروا على ترك أراضيهم بسبب زلزال، واستقروا لبعض الوقت على ضفاف “Ad Syriam Stagnum” (ربما البحر الميت) قبل أن ينزحوا الى ساحل البحر المتوسط ويبنوا مدنهم. أما هيرودوت، خلال زيارته لصور في العام 450 قبل الميلاد، نقل عن سكان المدينة بأن تأسيسها يعود إلى 2.750 ق. ، وقال بأنهم جاءوا من بحر إريتريا (التي كانت، بالنسبة إلى القدامى، تتوافق مع الخليج وجزء من المحيط الهندي).
الجغرافيين اليونان أيضاً يتحدثون عن جزيرتي تايلوس و أرادوس والتي يفتخر الفينيفيين بأنها كانت الدولة الأم لهم، وهي الجزيرتين التي تتكون منها البحرين (المنامة و المحرق). جزيرة أرواد حالياً في سوريا والإسم اليوناني للجزيرة ‘أرادوس’ هو نفس الإسم القديم لجزيرة المحرّق في البحرين في الخليج العربي. حيث يعود تاريخ المحرّق في البحرين إلى حضارة دلمون إلى أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد. حيث أن الفينقيين استوطنوا جزيرة أرواد (سوريا) منذ بداية الألفية الثانية قبل الميلاد.
كما يعتقد المؤرخ الالماني أرنولد هيرين في القرن ال19 بأن الفينيفيين نشأوا في البحرين.
تكونت حضارة الفينيقيين كمدن على شكل دول، على غرار اليونان القديمة، حيث كل مدينة وجزيرة كانت تعتبر دولة و وحدة مستقلة سياسياً. والحكم في الفينيقيين كان ملكاً للأسر التجارية العريقة فيها، مع علاقات ممتدة مع الدول والشعوب والحضارات على سواحل البحر الأبيض المتوسط. ويبدو أن المدن لم تجتمع مطلقًا تحت راية حكومة واحدة. وبشكل عام كان الفينيقيون تجارًا مرموقين يجولون البحر الأبيض المتوسط. حيث كانت أبرز مدنهم صور وصيدا وأرواد وبريتوس وجبيل ويافا ودور وعكا وأوغاريت والأناضول. كما عُرف الفينيقيون بعبورهم البحر بوصفهم تجارًا ومُستعمِرين، وتوسعت سيطرتهم على امتداد ساحل الشام، إذ أنشأوا سلسلة من المستوطنات مثل قرطاج وجزيرة سردينيا وجزيرة صقلية وجزيرة قبرص وجزيرة كريت (ايتانوس) وكملكا (حديثاً ملجا).
وتوسعت التجارة خلال القرن السادس عشر قبل الميلاد، وهيمن المصريون على أكثر فينيقيا. لكن في القرن الرابع عشر قبل الميلاد حدثت اضطرابات سياسية أدت إلى فقدان مصر سيطرتها على المنطقة. مع بداية القرن التاسع قبل الميلاد، هدد تقدم الأشوريين استقلال فينيقيا، إذ فرض عليها الملوك الأشوريون الضرائب، واستطاعوا السيطرة عليها أو على أجزاء منها في بعض الفترات. وفي سنة 538 ق.م سيطر الفرس على فينيقيا، حتى دخلها الإسكندر الأكبر، وضُمت إلى ولاية سوريا الرومانية سنة 64 ق.م، عدا مدن أرواد وصيدا وصور التي احتفظت بالحكم الذاتي.
تضمنت صادرات فينيقيا خشب الأرز والصنوبر والكتان الناعم من صور وبيبلوس وبيروت، والأقمشة المصبوغة باللون الأرجواني الصُوري الشهير المصنوع من قواقع الموريكس، إضافةً إلى الأقمشة المطرزة من صيدا، والنبيذ والمشغولات المعدنية والزجاج والخزف المصقول والملح والسمك المجفف. ونظم الفينيقيون تجارة مرور (ترانزيت) مهمة. كما مثلت المنتجات الفنية الفينيقية مزيجًا من الأفكار المصرية والعراقية والإيجية والسورية. ومع أن المنحوتات الفينيقية المُكتشفة قليلة فإن بقايا النحت البارز كثيرة ومميزة، وأقدم ما عُثِر عليه من منحوتات هو تابوت أحيرام المصنوع من الحجر الجيري، الذي اكتُشف في بيبلوس، وأحيرام هو ملك بيبلوس في نهاية القرن 11 ق.م.
كما تخصص الفينيقيون في نقش العاج والخشب، وعُرفت أعمالهم في صياغة الذهب والمعادن على نطاق واسع أيضًا، وقد ابتُكرت عملية نفخ الزجاج في ساحل فينيقيا غالبًا، وذلك في القرن الأول قبل الميلاد أو قبل ذلك.
استعمل الفينيقيون الكتابة المسمارية وابتكروا كتابةً خاصة بهم أيضًا، وتكونت الأبجدية الفينيقية المستعملة في بيبلوس منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد من 22 حرفًا. استخدم الإغريق نفس طريقة الكتابة لاحقًا، وتُعَد سلفًا للحروف اللاتينية الحالية، لذا فإن الأبجدية هي أبرز ما ساهمت به فينيقيا في مجال الفنون والحضارة. ويجتمع معظم علماء اللغات والآثار على أن اختراع الأبجدية الأم، التي ولدت منها جميع أبجديات العالم مثل اليونانية واللاتينية والعربية والعبرية تم على أيدي الفينيقيين، حيث وجد أقدم رقم (لوح فخاري) مكتوبة عليه الأبجدية في أوغاريت قرب مدينة اللاذقية في سوريا. المؤرخ هيرودوتس اليوناني نسب الأختراع إلى قدموس الفينيقي. ولما انتقل قدموس إلى طيبة نشرها بين شعوب أوروبا. وهناك آثار في مدينة طيبة عبارة عن نقش لصورة قدموس يعلم أبناءه الحروف الأبجدية. ومن أقدم الكتابات التي كتبت بالأبجدية الفينيقية منقوشات قبر أحيرام ملك جبيل أو “بيبلوس” في شمال لبنان. ويذكر أنه وجد آثار لنصوص فينيقية في دول أخرى مثل قبرص ومصر وإسبانيا وإيطاليا وخاصة تونس وفي أكثرية دول حوض البحر المتوسط، وكانت تكتب اللغة الفينيقية من اليمين إالى اليسار.
هناك اعتقاد كبير بأن الفينيقيين وصلوا إلى أمريكا الشمالية والوسطى خلال السنوات التي أبحروا فيها بمهارة في البحار والمحيطات، فهناك دلائل على التأثر الواضح بالثقافة الفينيقية في الآثار المكتشفة في أمريكا الشمالية وحتى البرازيل والإكوادور، في حضارات مثل حضارة أولمك وحضارة بناة الروابي، وعندما تم اكتشاف “الهيكل العظمي في الدرع” الموجود في فول ريفر بمدينة ماساتشوستس، اعتقد علماء الآثار بأن الهيكل يرجع إلى بحار فينيقي، أبحرت سفينته ووصلت إلى أمريكا قبل آلاف السنين، كما وجدوا حجر في بحيرة في نيفادا، مكتوب عليها دعاء للمطر باللغة الفينيقية، كما ذكر أيضاً الباحث “ستيف بارثالوميو” عن أثار فينيقة تعود لقرطاج في وسط ولاية يوتاه في الولايات المتحدة الأميركية. كل تلك الاكتشافات تؤكد على الوجود الفينيقي في أمريكا قبل وقت بعيد من اكتشاف كولومبس لأمريكا.
تعليقات
إرسال تعليق
شكراً لتعليقك واهتمامك